بقلم الأستاذ إحسان هندي
في مدينة (سـوزا) عاصمة دولة (عيلام) القديمة، والتي تقع آثارها في جنوبي إيران اليوم، عثرت بعثة علمية فرنسية، برئاسة العالم الاثري (دي مورغان) سنة 1901 على نصب تذكاري طوله 2.25 م ومحيطه عند القاعدة 1.90 م من حجر الديوريت الاسود.وكما كان اكتشاف حجر رشيد في اوائل القرن التاسع عشر مقدمة لفك طلاسم اللغة الهيروغيليفية فقد كان اكتشاف النصب المذكور سببا في التوصل الى الحصول على نصوص اول مدونة قانونية عرفها الانسان القديم، وهي المدونة المعروفة باسم (تشريع حمورابي).وحمورابي كما نعلم هو احد ملوك بابل الاولى، بل هو اكبر واعظم ملوكها على الإطلاق، وقد حكم إمبراطورية واسعة لمدة 24 عاما وذلك منذ سنة 1728 وحتى سنة 1686 قبل الميلاد. والظاهر أن نصبه هذا قد انتقل من بابل الى عيلام كغنيمة حرب حملها احد الملوك العيلاميين بعد انتصاره على الدولة البابلية في أواخر أيام ضعفها.
وهذا النصب، الذي يقبع الآن في متحف اللوفر في باريس، يحمل في أعلاه رسما للإله شميش، اله الحكمة والعدالة، جالسا على عرشه وهو يقدم الى حمورابي، الواقف أمامه بخشوع، ألواح شريعته، وذلك دلالة على مصدرها الإلهي، ويظهر حمورابي في الصورة بثوب طويل يكشف عن كتفه وذراعه الأيمن، طليق اللحية حليق الشاربين، وأما شميش فيظهر بعمامة مخروطية الشكل يضعها على رأسه، ويحمل في يده اليمنى الخاتم وصولجان دلالة على ألوهيته، وفي أسفل النصب المذكور نجد المواد القانونية مكتوبة باللغة البابلية وبالخط المسماري، وذلك على شكل أعمدة متقاربة يبلغ عددها 51 عمودا.
وقد اتفق اغلب العلماء والمؤرخين على ان حمورابي لم يضع قوانينه من العدم Exnihilo وإنما قام بجمع الأعراف والقوانين السومرية والاكادية التي كانت سائدة سابقا في بلاد الرافدين وهذبها وأضاف إليها ما ينقصها ثم سكبها جميعا في مدونة واحدة متكاملة.
وهذا التشريع يضم مقدمة، ثم نص التشريع نفسه، وأخيرا الخاتمة.
أ- المقدمة: يقول حمورابي في مقدمة تشريعه:
(لقد دعتني الآلهة أنا حمورابي، الأمير النبيل الذي يحترم الآلهة ويشيد العدالة ويقضي على الظلم والأشرار ولا يجيز للأقوياء ان يعتدوا على الضعفاء. إني أتيت كي انشر العدالة بين الناس كما تنشر الشمس ضياءها على الأرض، أرسلني الإله مردوخ لأحكم بين الناس واحمي الأرض، ولذلك وضعت القوانين ونشرت العدالة بينهم وهيأت لهم الخير والسعادة. لا يجوز للقوي ان يعتدي على الضعيف كما انه يجب حماية الأرامل والأيتام. ليتقدم مني المظلوم لأنصفه، وليقل ما هو مكتوب على مثلي و يتفهمه و يعرف حقوقه و يشعر بالسعادة. ليقل كل مظلوم ان حمورابي سيد وأب لعموم رعيته).
ب- نص التشريع:
بعد هذه المقدمة، التي تقوم مقام الديباجة prologue في التشريعات الحديثة، تأتي النصوص القانونية في 282 مادة مقسمة الى اثني عشر قسما أو بابا، وهي تتناول أمور الزراعة والتجارة والحياة الاجتماعية والعائلية وعقوبات مختلف الجنح والجرائم. وأهم هذه الأبواب الاثني عشر الباب السابع الذي يتعلق بأنواع البيوعات وبقواعد التعامل، والباب الثاني عشر الذي يحدد طبقات المجتمع وحقوقها.
ويمكننا ان نصنف المواد القانونية التي حواها هذا التشريع في ثلاث زمر: المواد الاجتماعية، المواد الاقتصادية، الجرائم وعقوباتها.
1- المواد الاجتماعية:
اهتم تشريع حمورابي بتنظيم الحياة الاجتماعية في الإمبراطورية البابلية فحدد طبقات المجتمع بثلاث: طبقة السادة من ملاكين وتجار كبار ، والطبقة المتوسطة من صناع وفلاحين أحرار، وأخيرا طبقة العبيد أو الأرقاء.
ولم تكن هذه الطبقات الثلاث متساوية في الحقوق أو الواجبات طبعا إذ كانت حقوق الطبقة الاولى أكثر و واجباتها اقل من الطبقتين الأخيرتين، وكانت دية السيد إذا قتل اكبر بكثير من دية ابن الطبقة المتوسطة (المشكينو) أما طبقة العبيد الأرقاء فكانت تقع في أسفل السلم الاجتماعي رغم ان التشريع لم يبخل عليها ببعض الحماية إذا قارنا وضعها بوضع العبيد في الدول المجاورة أو لدى الرومان في العصور القديمة. فالعبد رغم انه كان يباع ويشترى بين سيد وسيد أخر الا أن القانون سمح له بالتخلص من عبوديته وذلك بشراء حريته كما سمح له بالزواج من المرأة الحرة ونص على أن الأولاد في هذه الحالة يكونوا أحرارا كأمهم. وتمتعت المرأة بمكانة عالية جدا في بلاد مابين النهرين أيام البابليين، وقد زاد تشريع حمورابي من هذه المكانة الى درجة دعت أحد المؤرخين الأوروبيين المحدثين للقول: (إن وضع المرأة المتزوجة في المجتمع البابلي لم يكن فريدا في بابه بالمقارنة مع المجتمعات الأوروبية وأكثرها تقدما اليوم)، فقد سمح القانون للمرأة بشخصية حقوقية مستقلة عن شخصية زوجها، وأعطاها الحق بمزاولة التجارة وكثير من المهن الأخرى.
كما تعرض التشريع بالتفصيل لأوضاع الأسرة، فجعل من الأب رئيسا للأسرة وأعطاه الحقوق المتصلة بذلك، ولكن بدون أن يسمح له بإساءة استعمالها كما كان الأمر في المجتمع الروماني القديم، فقد فرض على الأولاد مثلا احترام ابائهم بقوله: (إذا ضرب رجل أباه جوزي بقطع يده) ولكنه حفظ حقوق الأولاد بالمقابل وخصهم بوراثة تركة أبيهم دون زوجته التي ليس لها الحق الا في (مهرها وهدية عرسها وبأن تظل ربة البيت مادامت على قيد الحياة).
وقد نظم تشريع حمورابي الزواج وحماه، فأوجب أن يتم عن طريق التراضي مع أهل العروس، ومنع الزواج عن طريق الخطف الذي كان سائدا قبل ذلك، وسمح بالطلاق بتوافق الطرفين فقط و منع تعدد الزوجات الا في حالات معينة أهمها حالة عقم الزوجة.
وشدد التشريع في معاقبة الخيانة الزوجية وحدد الأدلة المطلوبة لثبوتها، فأعطى الزوجة حق حلف (يمين البراءة) إذا اتهمها زوجها بالخيانة بدون ان يكون لديه شهود على صحة ما يقول، وأما إذا كان اتهامها بالخيانة نتيجة لتقولات الناس عن سوء سلوكها فينبغي عليها في هذه الحالة ان تجتاز امتحانا عسيرا وذلك بإلقائها بالماء فإذا غرقت فيه كانت مذنبة وإذا نجت كانت غير مذنبة، ويعاقب زوجها أو المتقولون عنها بالسوء في هذه الحالة.
2- المواد الاقتصادية:
اهتم تشريع حمورابي بحماية الزراعة والصناعة والتجارة مما أدى الى استقرار التعامل وازدهار الحياة الاقتصادية بشكل عام.
فمن حيث الزراعة اعتبر حمورابي الأرض أهم أنواع الملكية فنظم كيفية الحيازة عليها وتأجيرها وزراعتها، وبحث في جميع المسائل التي تؤدي الى تحسين استثمارها كقنوات الري وثران الفلاحة والعلاقات بين مالك الأرض ومستأجرها وبين الفلاحين والرعاة الذين يعملون في خدمته.
فقد حض القانون مستأجر الأرض على رعايتها فنص على ان (المستأجر يعتبر مسؤولا ويستحق العقوبة إذا أهمل الأرض التي استأجرها ولم يزرعها لمدة عام كامل). و فرض على الفلاح أن يتفانى في العناية بأرضه و خدمتها وتنظيف الترع و القنوات مما يتجمع فيها من رمال وطمي وأعشاب، (ويعتبر الفلاح مسؤولا عن كل عطل و ضرر يصيب حقول جيرانه إذا هو قصر في إصلاح السدود الموجودة في حقله أو أهملها و ترك مياهها تطفو على ارض جيرانه). ونظم القانون عملية استئجار الحيوانات الزراعية (الثيران و البقر و الحمير) فجعلها لسنة كاملة أو لبضعة أيام أو ليوم واحد فقط، وحدد في هذه الحالة من الذي يتحمل مسؤولية هلاك الدابة فقال في ذلك: (إذا استأجر شخص ثورا أو حمارا ومات هذا الثور أو الحمار بحادث طبيعي او وقعت عليه صاعقة أو هاجمه أسد و افترسه فان الشخص غير مسؤول عن موته) وفي هذا التطبيق للقاعدة اللاتينية التي عرفت فيما بعد على شكل (الشئ يهلك على حساب مالكه).
وكما حافظ القانون على رعاية مصالح المالكين فقد تدخل أيضا لحماية المستأجرين من جشع أصحاب الأراضي وحدد للفلاح ما يحق له من حقوق تجاه المالك وبالأخص أجوره ومساوماته وحصته من المحصول.
واهتم تشريع حمواربي بزراعة محصول النخيل بشكل خاص لأن ثمره كان يستخدم لصنع الطحين والنبيذ والسكر، وقشوره لصنع الألياف والحبال، وسوقه لصنع أخشاب البناء والزوارق والسفن، ولذا فقد نص على ان (المستأجر الذي يقوم بزراعة أشجار النخيل في أرض أحد الملاك يعفى مما عليه من إيجار لمالك الأرض لمدة خمس سنوات. وإذا أثمرت شجرات النخيل تصبح ملكيتها مناصفة بين مالك الأرض وزارعها).
هذا في مضمار الزراعة واما في مضمار الصناعة فقد حدد قانون حمورابي أجور البناءين والخياطين والنجارين والبحارة وسائر أصحاب المهن الحرة الأخرى، واهتم بشكل خاص بصناعة البناء ومسؤولية البناءين عن سلامة الأبنية التي يشيدونها ونص على أنه (إذا انهار بيت وقتل من اشتراه حكم بالموت على مهندسه أو بانيه. وإذا تسبب عن سقوطه موت ابن الشاري حكم بالموت على ابن البائع أو الباني).
كما نص على ان عقوبة من يقوم بخرق بيت غيره أن يعدم أمام الخرق الذي أحدثه. ونص القانون على أن أجر البناء يجب ان يتناسب مع مساحة الأرض التي يشغلها، وفرض على من يريد استئجار بيت من البيوت أن يدفع إيجاره عن مدة سنة كاملة، وأن يتابع بعد ذلك دفع الإيجار السنوي على قسطين.
واهتم التشريع بصناعة السفن فأوجب على العامل (إذا بنى سفينة لشخص و أنزلها في الماء فتبين له خلال سنة من بنائها أن بها عطلا ان يصلح ـ أي العامل ـ له هذا العطل أو يبني له سفينة جديدة دون أن يكلفه أي مال إضافي) وجعل بحار السفينة مسؤولا عنها مسؤولية تامة في حال غرقها الا إذا استطاع أن ينتشلها من غرقها بجهده فعليه أن يدفع نصف ثمنها لمالكها فقط في هذه الحالة.
وكانت التجارة مع الخارج تنقل إما عن طريق القوافل البرية أو بواسطة السفن والمراكب الصغيرة. وكان على التاجر أن يقدم لعميله البضاعة أو المعادن الثمينة التي يتاجر بها في الخارج وله مقابل ذلك عمولة مقدارها 1% من قيمتها.
وأما بخصوص المعاملات التجارية فقد أوجب التشريع على المتعاقدين ان ينظموا بها عقودا تكتب على ألواح خاصة من الخزف أو الحجر. وكانت المحاكم لاتقبل النظر في دعاوى البيع والشراء بشكل خاص وجميع المعاملات المدنية بشكل عام الا إذا كانت هذه العقود مصدقة من قبل شهود.
والجدير بالذكر أن هذه القواعد كانت تنفذ بحذافيرها من قبل المتعاملين والدليل على ذلك العدد الضخم من الألواح الفخارية التي اكتشفت في موقع (نوزي) في شمال شرقي بلاد الرافدين بين عامي 1925 – 1930، وكلها تحوي صكوك بيع و شراء، أو أجار و استئجار، حسب تعاليم شريعة حمورابي، كما سجلت على ألواح أخرى الأحكام التي كانت تطبق بحقوق المخالفين، والعقوبات التي كانوا يتعرضون لها.
والملاحظ ان تشريع حمورابي اهتم بحماية حق الدائن من الضياع، ولكنه اهتم بالمقابل بحماية المدين من تعسف الدائن واستغلاله وخاصة إذا كان هذا الأخير يتقاضى فائدة باهظة عن دينه. وبالإجمال لم يقس هذا التشريع على المدين كما فعلت بقية التشريعات القديمة كالتشريع الروماني مثلا الذي كان يجيز للدائن في اوائل أيام الدولة ان يقتل مدينه ثم خفف ذلك الى استرقاقه بدلا من قتله.
3- الجرائم وعقوباتها:
إن اول ما يلاحظ في هذا المجال أن تشريع حمورابي قد فرق بشكل واضح بين الجنايات و الأضرار التي تحدث عمدا وبين تلك التي تحدث عن غير قصد أو لمجرد الإهمال، فبينما قسا كثيرا في معاقبة الجرائم المقصودة اكتفى بأخذ دية أو تعويض في حالة عدم توفر القصد الجرمي.
وكانت العقوبة غالبا ما تكون تطبيقا لمبدأ العين بالعين ، والسن بالسن ، فإذا (اعتدى عبد على حر فكسر سنه أو قلع عينه فيجب ان يكسر سن العبد أو تقلع عينه) وبالمقابل (إذا تسبب أمير بكسر ذراع احد أبناء الشعب يعاقب هو بكسر يده).
وكان هذا المبدأ – مبدأ العين بالعين والسن بالسن – يصل أحيانا الى درجة المغالاة التي يصعب علينا تقبلها في هذه الأيام كما يظهر من الأمثلة التالية:
- (إذا ضرب أحد أسنان إحدى البنات وماتت حكم بالموت على ابنة الضارب).
- (إذا تسبب طبيب أثناء عملية جراحية في موت مريض أو في فقد عين من عينيه قطعت أصابع الطبيب، ولكن يحق للطبيب رفض إجراء عملية إذا وجد ان الأمل ضعيف بنجاحها).
- (إذا استبدلت قابلة طفلا بآخر عن علم بفعلتها جوزيت بقطع ثدييها).
كما ان العقوبات كانت في بعض الأحيان لا تتناسب من حيث قسوتها مع الجريمة المقترفة بل تزيد كثيرا عنها، فقد كانت عقوبة الشخص الذي يتهم غيره بارتكاب جريمة ما ثم لم يستطع إثباتها هي الحكم عليه بالعقوبة المقررة للجريمة التي اتهم خصمه بارتكابها والتي تصل الى الإعدام أحيانا.وقد اخذ التشريع بالعقوبات الجماعية في حال عدم معرفة الفاعل الحقيقي حيث نص على انه (إذا ارتكب رجل جريمة سطو وقبض عليه حكم على هذا الرجل بالإعدام. وإذا لم يقبض على السارق كان على المسروق منه ان يدلي أمام الإله ببيان مفصل عن خسائره وعلى المدينة التي ارتكبت السرقة في حدودها والحاكم الذي ارتكبت في دائرة اختصاصه ان يعوضاه عن كل ما فقده).وبالنسبة لبقية الجرائم والتعديات حدد تشريح حمورابي عقوبات مختلفة لها باختلاف العاهات الجسمية التي تلحق بالمعتدى عليه، وقد تراوحت هذه العقوبات بين قطع الأصابع وقطع اليد وجدع الأنف الى الإعدام بالصلب أو الحرق أو الغرق، ويكاد مبدأ (الجزاء من جنس العمل) ان يكون محترما في جميع هذه العقوبات.
ج- الخاتمة:
ويختتم حمورابي شريعته بقوله: (إن الشرائع التي رفع منارها الملك الحكيم حمورابي وجدت حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء وحتى ينال العدالة اليتيم والأرملة، ولعل الملك الذي يكون في الأرض فيما بعد ان يرعى ألفاظ العدالة التي نقشتها على اثري).
وقد كان لحمورابي ما أراده فخلده تشريعه أكثر مما خلدته فتوحاته حيث انتقل من بابل الى بلاد اشور وعيلام وغيرها.
وان أهمية تشريع حمورابي تكمن لا في قيمته الحقوقية فقط لا بل من حيث ان يعطينا دلالة واضحة على درجة التطور الفكري والتنظيم الاجتماعي الذي وصل إليه الانسان منذ ذلك الزمن، الذي أصبح يفصلنا عنه الآن ما يقارب من أربعة ألاف سنة.
إحسان هندي